الأحد، 18 يناير 2009

الحاجة الى تعزيز روح المصالحة.. قراءة فى احداث ملكال التى صاحبت ذكرى احتفالات السلام



قد يبدو غريبا للكثير من الناس العاديين و المهتمين بقضية المستقبل الامن لاقليم جنوب السودان وفى ظل اوضاعه الحرجة التى يعيشها حاليا وهو فى طور البداية الجديدة بعد فترة توقيع اتفاقية السلام الشامل التى وضعت حدا فاصلا للحرب اللعينة التى ما ابقت على اى شئ يذكربالمعنى سوى الامل المنبعث فى النفوس باحتمال استئناف فرص الحياة الهانئة بما توافر من مقدرات و امكانات تساعد على تلك البداية و الانطلاق بعدها نحو الاستقرار النفسى للمواطنين هناك كمشاركيين اصيلين فى عملية البناء ، قد يبو غريبا ان يدخل الاقليم فى دائرة الانشغال بنزاعات جديدة لم يشهدها من قبل حتى فى اثناء فترة انلاع الحرب ، و الغريب ايضا فى هذه الانشغالات هو كونها ظلت ترتبط الى حد كبير بمزاعم السلطة و الجاه و النفوذ السياسي بالاضافة لكونها آثرت الالتصاق بالحمية العصبية وسلطان القبيلة ، وهذا امر يؤسف له حقيقة لكون ان القائمين على تلك ( الهلوسات المضنية) اناس تتوسم فيهم مجتمعاتهم درجات من الوعى و الدراية و التعليم ، وهى بالنسبة لنا مقدرات كبيرة كان من الممكن توظيفها بايجابية كاملة لتنصب فى خانة النهوض بالمجتمع نحو التماسك و التعاضد .
ان تلك الصورة المحزنة التى خرجت بها احتفالات السلام الاخيرة بمدينة ملكال كانت نتاجا لتلك النزاعات التى بدات تطل براسها فى الفترة القليلة التى اعقبت توقيع الاتفاقية ، وهى ان افضت الى نتيجة منظورة فانها هتكت جدران مثال التعايش الاجتماعى الذى عرفت به ولاية اعالى النيل بالمجموعات القاطنة بها و مختلف التكوينات التى ظلت متالفة على مر تاريخ المنطقة ، وهى ماثرة لم يكترث لها ( المهلوسين) وهم يبتدرون صراعا غير معروف الدوافع والنهايات حول ملكية مدينة ملكال هل هى ( للشلك) ام انها منطقة تاريخية تابعة (للدينكا) مما ولد حالة احتقان قصوى مابين تلك المجموعتين انعكست على اداء المؤسسات التنفيذية و التشريعية لزمن طويل و المثال على ذلك تاخير اجازة دستور الولاية لذات الاعتبارات ، كما انسحبت تلك التوترات الى خطاب معظم منظومات العمل المدنى بالولاية و اعنى هنا بالخصوص الاجسام و الروابط الطلابية الممثلة لمجموعات ( الدينكا و الشلك) كاثر مباشر لازمة تورطت فيها كيانات يفترض فيها التدخل بما يتناسب مع الدور الاجتماعى الكبير المطلوب و المتوقع منهم كطلاب بالجامعات و المعاهد العليا وهو مالم نجده باى شكل من الاشكال مما ضاءل من حجم الفرص المحتملة بوجود اجسام محايدة يقودها الحرص على تهدئة الاوضاع و تحويل هذا النزاع لمصلحة جميع الاطراف وهو لا يزال فى طوره المبكر، لكن لهجة البيانات الصادرة عن هذه المنظومات الطلابية ـ باستثناء البيان الاخير المزيل باسم (رابطة طلاب فدانق بالجامعات و المعاهد العليا ـ اجراس الحرية18ـ يناير) كانت جميعها تؤكد باستمرار على خطورة المسالة و التحركات التى عكفت من خلالها بعض الاطراف من السياسيين على الاصطياد فى تلك المياه الاسنة و تمرير اجندتهم الشخصية الضيقة فى مغامرة تفتقر للحس المسئول و الروح المخلصة التى تنظر ابعد من حدود المعطيات الراهنة و تغلب البعد الاخلاقى المتجرد من اى ميول شخصية تستفيد من حالة التوتروعدم الاستقرار بولاية اعالى النيل.
حتى وان اوردت الروايات الرسمية بان السبب الجوهرى لاندلاع النزاع بين مجموعتى (الدينكا) و (الشلك) فى مدينة ملكال ، تظل هناك اسباب و دوافع اخرى و غير مجهولة تم التعبير عنها هنا و هناك عبر بيانات الادانة التى صدرت عن الجانبين ، هذا بالاضافة الى امتداد تلك الاحداث من استاد ملكال الى قرى( نكديار) و (كنيسة لول) فى مسافة تنفى فرضية ان ( نشوب خلافات بين مجموعات الرقص فى احتفالات السلام) هو ما افضى الى مقتل و اصابة اكثر من 100 شخص و حرق حوالى180 منزل الى جانب نزوح و تشرد العديدين حسب الاخبار التى اوردتها صحف ( الاحداث ـ راى الشعب و مونتر بتاريخ 11ـ 12 يناير الجارى) ، وهو امر مؤسف ان نفقد المزيد من الارواح ونحن نحتفل باتفاقية السلام و التى كان من الاجدر بنا تمثل روحها و مغزاها الرئيسى فيما بيننا ، كما ندين هذه الجرائم مطالبين سلطات حكومة الجنوب بفتح تحقيق عاجل حول تلك الاحداث وتقديم المتورطين فيها فورا الى العدالة حتى لا تتكرر مثل هذه الظواهر فى المستقبل و ان تسكن الفتنة تمامافى مهدها.
من المظاهر الملحوظة فى خصوص الاحداث المؤسفة التى شهدتها عاصمة ولاية اعالى النيل مؤخرا هو حالة الخفوت المريب التى اعترت الرموز و القيادات من السياسيين و المثقفين الذين يمثلونها ، وهذه ازمة واضحة نخشى معها قابلية تلك الرموز للتماهى مع اجسامهم القبلية و تاسيس خطابهم وفق تلك المناورات المنحازة للمجموعة فى اولى المنعرجات الحقيقية التى تحتاج الى المواقف الشجاعة كادانة تلك الاحداث و المتورطين فيها مهما كانت خلفاياتهم او انتماءاتم الاثنية .. الا يوجد بينكم رجل عاقل؟.
الامر الآخر هو موجة الاتهامات التى لم تتوقف منذ صبيحة تفجر الاحداث حتى الان ، اذ تحولت المسالة الى ملاسنات و بيانات وصل فيها الخطاب الى درجة التعبئة و اعلان حالة (الجهاد) نعم الجهاد ! من احدى مجوعات النزاع التى يمثلها اتحاد طلابى .. ففى ظل الصمت و التوارى الذى تعكف عليه القيادات فى ولاية اعالى النيل وعدم التفاتهم الى هذه التعبئة نتساءل حول مدى مسؤوليتكم عن هذا الخطاب الذى تقوده روابطكم الطلابية فى الولاية .. اين انتم من كل هذا لماذا لم تدينوا المتورطين من الطرفين .. اليس بينكم رجل عاقل؟
الملاحظة الاساسية و الاخيرة بالنسبة لنا و التى تؤكد على حالة العجز الكبير و العزلة التى تعيشها القيادات الاجتماعية و السياسية فى اعالى النيل هى عدم قدرتهم حتى الان على تحديد المخرج من حالة النزاع القبلى التى يمكن ان تتسع دائرته اذا ما تعاملوا معه على اساس الاصطفاف و استغلال اوضاع الحذر ببث دعاياتهم السياسية ، فالمخرج معلوم و غير مكلف البتة لكنه يحتاج الى القدرة الكافية من الالتزام الادبى و الاخلاقى لتبنى خيار الترابط الاجتماعى عبر اجراء عملية( مصالحة) و اسعة بين جميع الاطراف فى اعالى النيل كمنطقة تساكن اجتماعى طويل سواء كانوا من (الدينكا) او (الشلك) لابراء النفوس ولكم فى توصيات مؤتمر اونليت المنعقد فى فبراير 1999 اسوة حسنة تسترشدون بها. فملكال ينبغى ان تكون للجميع كما ان الاكثر اهمية هو ان يكون جميع ابناء المنطقة لملكال وهذا امر فى الامكان حدوثه بيد انه يحتاج الى تضافر الجهود المخلصة و العقول المتسامية بين السياسيين و المتعلين الشباب و جماعات المجتمع المدنى ، هنالك عدة خيارات كنا نتمنى ان يشترك فى طرحها المكون المحلى بولاية اعالى النيل لسلطاتهم المسئولة عن تامين حياتهم استقرارهم وهذه الخيارات هى :
اولا: اقامة مؤتمر جامع للمصالحة و التعايش الاجتماعى يشارك فيه عقلاء المنطقة من الادارة الاهلية ، منظمات المجتمع المدنى، المبدعين الشعبيين، و الجهات الحكومية الرسمية وان يتم تكوين مجلس للسلام يضم كافة مكونات المنطقة يهتم بمتابعة و انفاذ توصيات المؤتمر.
ثانيا: ابتدار حملة واسعة لجمع السلاح من ايدى المواطنين حتى تضطلع السلطات الامنية بالولاية من فرض الامن و سيادة حكم القانون.
ثالثا: تشجيع منظمات المجتمع المدنى على اقامة مخيمات مشتركة ورش عمل و مخاطبات جماهيرية عن قضايا المصالحة و بناء السلام و التعايش الاجتماعى، الى جانب بناء مشروعات عمل مشتركة بين المجوعات المتنازعة تمكنهم من الاندماج الاجتماعى .
رابعا: ضمان تشكيل المنظومات و الاجسام المدنية و الطلابية على مبدا الشفافية وعدم استخدامها من قبل السياسيين و المنتفعين كمظلات لتمرير ( الهلوسات) و الاجندة الضيقة قصاد الدعم المادى الذى يقدمونه لها ، وعلى الشباب فى تلك المنظومات السعى لتغليب المصلحة الاجتماعية لكافة الاطراف وفى ضوء الاهداف المعلنة لتك المنظومات و الجماعات.
خامسا: تخصيص مساحات و برامج باذاعة و تلفزيون الولاية يكون الهدف منها هو ترقية الحس الاجتماعى بقضايا بناء السلام و العيش المشترك بين سكان ولاية اعالى ، وان يتم توظيف اللغات المحلية كوسيط لنقل رسالة تلك البرامج.
سادسا: التزام القيادات السياسية و الحزبية من المنطقة بعدم ترحيل خلافاتهم السياسية الى داخل منظوماتهم القبلية وذلك لتلافى منهج التسييس القبلى الذى برعت الانقاذ فى استخداماته .
عموما تلك هى تصوراتنا و مساهمتنا البسيطة فى مسالة ينبغى ان ينصرف فيها كل المهتمين الى الدفع بمبادراتهم التى يرون امكانية مساهمتها فى تهدئة الاوضاع و تهيئة الفرصة كاملة امام الحادبين على امن و حياة الناس غض النظر عن خلفياتهم الاثنية للاخذ بتلك المقترحات ، ذلك لاننا نؤمن بمبدا ان المدخل الاساسى لاستقرار علاقات الحكم و السياسة فى مجتمع ما بعد الحرب هو البحث عن اليات لتعزيز(المصالحة) و (التعافى الاجتماعى) لاجل تقوية و دعم مرحلة الانتقال السلمى و بناء واقع اجتماعى افضل تقوم فيه العلاقات داخل اطار اكبر من الروابط التقليدية ، وهى مرحلة لن تنصلح فيها الاحوال اذا ما ادمننا ( كمتعلمين) مغامرة اقحام مكوناتنا الاثنية فى جدل السلطة السياسية و عولنا على تلك الافكار، لاننا سنكون بذلك قد وضعنا اللبنة الاساسية للتشرزم و مهدنا الطريق واسعا امام الانتهازيين ليتسلقوا بنا الى السلطة ..








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق