الأحد، 11 يناير 2009

استقلال السودان .. نظرة اكثر واقعية



ونحن نعايش الذكرى الثالثة والخمسين لاستقلال الدولة السودانية من المستعمر الاجنبى، كان لزاما علينا كسودانيين ان نعيد النظر المتأمل للمآلات التى صارت إليها بلادنا طوال عهود وفترات الحكم ( الوطنى)، التى تعاقبت علينا تحت كافة النعوت والاشكال، إذ ان سمة الدولة الوطنية والمستقلة، ان تحقق فى تاريخها الى الحد الذى يتيح لها بناء مراحل جديدة اكثر ثباتاً فى عمرها الحديث، وتبدو هذه النظرة على درجة غير قليلة من الاهمية بالنسبة للحالة السودانية، والتى ظلت تُنسب إليها جملة الاخفاقات الهائلة فى تاريخ دولتنا (المستقلة) من ربقة الاستعمار، الذى غادر ساحاتنا قبل خمسة عقود، دون ان تتبدل احوالنا الى درجة الاستقرار الكامل،والشواهد فى ذلك تبدو ظاهرة للعيان بالنسبة لكل متأمل واقعي، فمن خلال مراجعة التجربة الوطنية نفسها تتضح أمامنا جُملة من الازمات التى تورطت فيها النخبة السياسية من شمال ووسط السودان النيلي، وهى تفرض وصايتها على تفاصيل العلاقات السياسية والاقتصادية الحيوية بالبلاد، بعد ان نالت تلك الفرص الكبيرة بفضل تلاحم صلاتها مع (الاستعمار) رغم ان الشعار الذى رفعته الاحزاب الاستقلالية وقتذاك (السودان للسودانيين)، كان يعنى بصورة اساسية فلسفة حمل الاستعمار للخروج من البلاد، بيد ان ذات الشعار عاد مجددا ليطرح اسئلة اخرى تتعلق بمصداقية الاطراف التى تنادت الى الفكرة، فى اول منعطف حقيقى تمثل فى مفاوضات صيف 1952م التى حضرتها (معظم الاحزاب السياسية السودانية فى مصر)، حينما ذهب قادة تلك الاحزاب لبحث مستقبل السودان فى أروقة السياسة المصرية واحزابها، ولم يكن حزب (حستو) والجنوبيين ضمن تلك الاحزاب التى دعيت الى القاهرة للتفاكر مع النظام الجديد، الذى اعقب الثورة التى قادها الضباط الاحرار فى مصر (محمد سعيد القدال 2002م)، ولا تبدو المسألة مثيرة للاستغراب عندما ننظر مذكرات اللواء محمد نجيب، وهو يقول فى هذا الصدد (كانت الخطوة الاساسية هى جمع كلمة السودانيين بمختلف احزابهم على موقف موحد تعاونه فيه مصر.. وبدأنا المفاوضات مع وفود الاحزاب السودانية.. وكان معظم هؤلاء من معارفي واصدقائي و زملاء دراستي.. وكانت تربطني بهم علاقات وثيقة متجددة)، مقابل ذلك التحرك جاءت ردة فعل السياسيين الجنوبيين فى خطوتين مهمتين، تمثلت الاولى فى المذكرة الاحتجاجية التى بعث بها السيد بوث ديو إلى الامم المتحدة محتجاً على تلك الاتفاقية، اضافة لتحرك ثانٍ قاده بول لوقالي سكرتير (لجنة جوبا السياسية)، فى شكل مذكرة دفع بها الى السلطات الانجليزية معترضاً على عدم استشارتهم فى اتفاقية القاهرة، التى أدت لتشكيكهم بصورة كبيرة فى نوايا القيادات السياسية الشمالية. وفق تلك المعطيات كانت الحركة الوطنية السودانية ترفع شعارات أكدت مفارقتها لواقع السودان المتعدد اصلاً، لتنحصر تجربة استقلال السودان فى حدود سيطرة تلك النخب والزعامات الطائفية، التى لم تنظر للمسألة من مستوى المسؤولية الوطنية الجادة، فغيبت قضية مستقبل الدولة السودانية بنظرة آنية لم تضع فى الحسبان حتى ملامح المشروع الوطنى، الذى يمكن ان يصبح بموجبه (السودان للسودانيين)، لتبتعد اقوام ومجموعات كبيرة ومعتبرة عن علاقات الحكم طوال الفترات اللاحقة فى دولة السودان، وتتعثر كذلك جميع محاولات اصلاح هذا التجاوز بعدد من الحيل التى تبنَّت نفس النهج القديم فى الممارسة السياسية، وخلق ذلك بطبيعة الحال جملة تمايزات اجتماعية، ثقافية، واقتصادية، ادت بدورها لحالة الخلل المستديم فى العلاقة ما بين مركز الدولة (الحاكم) فى الخرطوم، وباقى المناطق التى ظلت ترزح كهامش مستبعد تماماً من واقع الحياة العامة فى السودان. لكن تظل المطالب التى رفعها السياسيون من جنوب السودان فى المؤتمر المعروف فى مسار التاريخ السياسي للسودان بـ(مؤتمر جوبا)، والذى انعقد فى الفترة من 12ـ13 يوليو سنة 1947م هى المحك والاختبار الملموس لعقلية الالتفاف على الحقائق، واضعاف تماسك الدولة الوطنية عندنا، فإضافة لكون المؤتمر مؤشرا لأولى حلقات التلاقي السياسي ما بين الشمال والجنوب، إلا انه ظل كذلك وعلى مر التطور السياسي المعاصر يعبِّر عن موقف سياسي تبنته اجيال جنوب السودان فى مقاومة السياسات الحكومية المركزية، وقد انتصرت القضية ـ عبر الزمن ـ لعدالتها واتساقها مع وضعية التفاوت التنموي بالبلاد، لكنها احتاجت لاكثر من نصف قرن حتى تتفهم النخبة السياسية فى شمال السودان واقعية تلك المطالب وعدالتها كقضية لا مناص من مخاطبتها، ومن المؤسف ان تتحقق تلك الشروط عبر حوار البندقية الذى قضى على أهم الميزات الضرورية فى البناء الوطني ألا وهو عامل الثقة والالتزام بالعهود والمواثيق، ونحن على شرف هذه المقاومة، لا يفوتنا إلا ان نحيي ذكرى آباء اماجد اسسوا لهذا المسار الوطنى الخالد، من لدن (فيلمون مجوك، كلمنت امبورو، جيمس طمبرا، بوث ديو، لادو لوليك، سريسيرو ايرو، ادوارد ادوك، لويث اجاك، كوميانجى ابوبو، حسن فرتاك، شير ريان، قير كيرور، الاب اندريا ابايا، اكومو بازيا، سلطان لابنجا، الاب قيدو اكاو، وسلطان تيتة)، فعبر تعضيد المطلب ساهموا بقدر وفير فى انبثاق الوعي السياسي لجنوب السودان، فطرحهم لخيار الفيدرالية هو الذى اتاح المساحة الوافية فيما بعد حسب الوعد الذى قطعه لهم محمد صالح الشنقيطى فى مؤتمر جوبا مقابل تصويت الجنوبيين لصالح منح السودان حكما ذاتيا، وبعد ان تحقق الاستقلال على هذا الشرط والعهد شب خلاف مبعثه رفض تضمين ذلك المطلب فى مسودة اول دستور وطني فى سبتمبر من العام 1957م، وقد صدر بيان اعلن فيه الساسة الشماليين للاسف ان (مطلب الجنوب لقيام نظام فيدرالى فى البلاد تمت مناقشته ووجد انه لا يصلح للسودان)، ولا ندري الى يوم الناس هذا اين تمت مناقشة تلك القضية، لكنه على أية حال بؤس السياسة السودانية وعقمها هو الذى اوجد تلك العقلية الوصائية لتقرر ما تراه مناسبا وما هو غير ذلك، حتى تم تفسير مطلب الفيدريشن كرجاء انفصالي، ولكن الاب سترينو لاهورو افاض فى الدفاع عن شرعية المبدأ ووجاهته أمام البرلمان، وهو يؤكد (ليست للجنوب نوايا سيئة تجاه الشمال، ان الجنوب يطالب فقط بادارة شؤونه المحلية فى ظل السودان الموحد وليست للجنوب نية فى الانفصال عن الشمال)، ولاننا فى السودان ذهبت كل تلك الرجاءات ادراج الريح واكتملت السيناريوهات المفارقة للشعارات من خلال ترتيبات السودنة لتتجلى فى واقع الامر هوية السودان الذى انفردت به تلك النخب على حسابها الخاص فى بواكيره الاولى منذ الاستقلال، متناسية ان ما اقدمت عليه من فعل متنكر لحقوق السودانيين فى الجنوب سيعود يوماً ما بمردود اخر سلبي يسلب الاستقلال معناه، ويدخل البلاد فى نفق معتم من الازمات التى تهدد حتى فرص المستقبل الواحد بالنسبة للسودانيين اجمعهم فى الشمال قبل الجنوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق