الثلاثاء، 27 يناير 2009

غابات الابنوس الجميلة حرم الرشيد شداد

يقولون ان للسفر سبع فوائد واظنها تبدأ منذ البدايات الاولى للتجهيز للرحلة ان كانت خارجية او داخلية, وعن نفسى بالرغم من فوائد السفر فانا لا احب السفر والابتعاد عن الوطن وكثيرا ما استغرب كيف يستطيع المغتربون والمهاجرون عن اوطانهم العيش، المهم لنعد الى الموضوع وهو السفر فمن تجهيزاته ان تأخذ تأشيرة الدخول للبلد الذى تتوجه اليه وتطلب منك السفارة احضار صورة فوتغرافية (صورة باسبورت) كما نسميها فذهبت الى احد الاستديوهات لاخذ الصورة فوجدته مزدحما فكدت اتوجه الى آخر ولكن شيئا ما شدنى لان انتظر فى هذا الاستديو بالذات فلاول مرة ارى عن قرب ذلك الجمال البنوسي الأخاذ الذى ما كنا نسمع تلك العبارة فنتلفت حولنا اين هو ذاك الجمال الابنوسي المأخوذ وصفه من الابنوس الذي ينمو بكثرة فى غابات الجنوب وتوصف به فتيات الجنوب اللاتي يتمتعن بهذا اللون الجميل وهذا القوام الممشوق فسرحت بذاكرتي الى الوراء حينما كنا نستغرب ذاك الكلام عندما كنا نرى اخواتنا الجنوبيات تعلو ملامحهن تعابير البؤس والشقاء والحزن وذاك الغطاء البالي على الرأس وثيابهن تفضح عن بؤسهن وفقرهن فهن لم يكن يجدن حظا فى التعليم او محلات العمل لكنني اكتشفت مؤخرا هذا الجمال الابنوسي الأخاذ الذى جعلني اتسمر فى ذلك المكان رغم ازدحامه وانتظر مذهولة ومعجبة بما حولي من تلك الاجسام الجميلة المتناقسة مع الملابس الانيقة ذات الالوان التى تنم عن ذوق رفيع فها هي امامي غابات الابنوس التى انبتت من الدماء جمالا دفن لعدة قرون فقد كان العريس والعروس من ابناء الجنوب وعدد كبير من اقاربهم رجالا ونساء فقد كان الرجال يرتدون افخم ماركات البدل الرجالية مع تناسق تام بين الوان القمصان والكرافتات الانيقة ولعل اكثر ما يلفت النظر فى الرجل حذاءه.فهنالك مثل شعبي يقول ان اردت ان تعرف نظافة المرأة فانظر الى اقدامها فدائما ما تقع عيناي على احذية الرجال وهذا ما يعطيني الاحساس بان هذا الانسان انيق ونظيف ام لا المهم كانت الاحذية تلمع مثل ما توجد داخل فترينات العرض اما النساء فلنبدأ بالعروس اولا فقد كان فستانها الابيض ينم عن اناقة ضافية وكان هذا الاختراع المسمي بفستان الزفاف قد فصل من اجلها يعطي بريقا جذابا مع ذاك اللون الخمرى المميز اما الوجه مع (المكياج) كقطعة من الشيكولاته الفاخرة وابتسامتها البيضاء المشرقة جعلتها حقا عروسا بمعني الكلمة اما المرافقات لها فكن فى غاية الاناقة والنظافة لملابسهن وكانهن عارضات ازياء من افخم دور الازياء الراقية اما شعورهن فقد ازدانت باجمل التسريحات وآخر الصيحات وابت عيناي الا ان تتمع بذلك الجمال الآخاذ لطريقة تسريحات الشعر المختلفة الجميلة غاية الجمال فذهبت مرة اخرى للماضي عندما كان الفقر مدقعا فظلم بنات الجنوب ان يظهرن ذلك الجمال الباهر فقلت فى نفسي ليس على الجنوبيين فقط صنع تمثال للراحل المقيم د.جون قرنق وانما لابد ان يفخر ابناء الجنوب والوسط الشمالي والغرب بذلك المناضل الذى استطاع ان يخرج هذا الجمال من غياهب ظلمات الحروب والقتال الى رحاب ساحات السلام والعدل والمساواة فكم انت عظيم ايها الراحل عندما ادركت ان الجنوب ظلم على مر الفترات التاريخية وليس فقط الجنوب بل اكثر اجزاء الشمال فجعلتها حركة قومية واتجهت بها الى مراكز صنع القرار فكان افقك اوسع يضم كل السودان وليس فقط الجنوب ولا يتشدق المتشدقون بان السلام اتى من الشمال بل هو فرض عليهم وكيفما جاء السلام لايهم المهم هو هذا النور ام الجمال الآتي من الجنوب ولست من دعاة الوحدة او الانفصال وليس عضوة بالحركة الشعبية ولكنني كمواطنة عادية رأيت كيف تحول حال ابناء الجنوب بعد السلام وان اتاني اي معارض ليس لي سوى ان اقول له تلفت من حولك ستجدهم اليوم يركبون احدث موديلات العربيات وينظر الى الجمال الذى ظهر على السطح من تحت انقاض الحروب والدمار وان قرر الجنوبيون الانفصال او الوحدة عليهم التمسك بمبادئ جون قرنق الذي جعل الحركة الشعبية حركة قومية فى المقام الاول تضم الشمالي والكردفاني والنوبة وابناء دارفور لاول مرة فى تاريخ السودان وان تستمر كحركة سياسية قومية جامعة لكل اهل السودان فعلى كل قيادات الحركة الشعبية ان تجعل رداءها قوميا ووعائها يسع الجميع وان تعمل اولا على ازالة آثار الحق والجفاء بين الشمال والجنوب اذا كانوا يريدون الوحدة فالاولويات هى كيفية جعل الوحدة جاذبة ليس بالشعارات ولكن بالعمل الجاد مع العمل على وضع معالجات نفسية لنزع آثار الحقد والكراهية من النفوس لكي ينعم الجميع بسلام دائم وعادل فى وطن يسع الجميع.

الأحد، 18 يناير 2009

الحاجة الى تعزيز روح المصالحة.. قراءة فى احداث ملكال التى صاحبت ذكرى احتفالات السلام



قد يبدو غريبا للكثير من الناس العاديين و المهتمين بقضية المستقبل الامن لاقليم جنوب السودان وفى ظل اوضاعه الحرجة التى يعيشها حاليا وهو فى طور البداية الجديدة بعد فترة توقيع اتفاقية السلام الشامل التى وضعت حدا فاصلا للحرب اللعينة التى ما ابقت على اى شئ يذكربالمعنى سوى الامل المنبعث فى النفوس باحتمال استئناف فرص الحياة الهانئة بما توافر من مقدرات و امكانات تساعد على تلك البداية و الانطلاق بعدها نحو الاستقرار النفسى للمواطنين هناك كمشاركيين اصيلين فى عملية البناء ، قد يبو غريبا ان يدخل الاقليم فى دائرة الانشغال بنزاعات جديدة لم يشهدها من قبل حتى فى اثناء فترة انلاع الحرب ، و الغريب ايضا فى هذه الانشغالات هو كونها ظلت ترتبط الى حد كبير بمزاعم السلطة و الجاه و النفوذ السياسي بالاضافة لكونها آثرت الالتصاق بالحمية العصبية وسلطان القبيلة ، وهذا امر يؤسف له حقيقة لكون ان القائمين على تلك ( الهلوسات المضنية) اناس تتوسم فيهم مجتمعاتهم درجات من الوعى و الدراية و التعليم ، وهى بالنسبة لنا مقدرات كبيرة كان من الممكن توظيفها بايجابية كاملة لتنصب فى خانة النهوض بالمجتمع نحو التماسك و التعاضد .
ان تلك الصورة المحزنة التى خرجت بها احتفالات السلام الاخيرة بمدينة ملكال كانت نتاجا لتلك النزاعات التى بدات تطل براسها فى الفترة القليلة التى اعقبت توقيع الاتفاقية ، وهى ان افضت الى نتيجة منظورة فانها هتكت جدران مثال التعايش الاجتماعى الذى عرفت به ولاية اعالى النيل بالمجموعات القاطنة بها و مختلف التكوينات التى ظلت متالفة على مر تاريخ المنطقة ، وهى ماثرة لم يكترث لها ( المهلوسين) وهم يبتدرون صراعا غير معروف الدوافع والنهايات حول ملكية مدينة ملكال هل هى ( للشلك) ام انها منطقة تاريخية تابعة (للدينكا) مما ولد حالة احتقان قصوى مابين تلك المجموعتين انعكست على اداء المؤسسات التنفيذية و التشريعية لزمن طويل و المثال على ذلك تاخير اجازة دستور الولاية لذات الاعتبارات ، كما انسحبت تلك التوترات الى خطاب معظم منظومات العمل المدنى بالولاية و اعنى هنا بالخصوص الاجسام و الروابط الطلابية الممثلة لمجموعات ( الدينكا و الشلك) كاثر مباشر لازمة تورطت فيها كيانات يفترض فيها التدخل بما يتناسب مع الدور الاجتماعى الكبير المطلوب و المتوقع منهم كطلاب بالجامعات و المعاهد العليا وهو مالم نجده باى شكل من الاشكال مما ضاءل من حجم الفرص المحتملة بوجود اجسام محايدة يقودها الحرص على تهدئة الاوضاع و تحويل هذا النزاع لمصلحة جميع الاطراف وهو لا يزال فى طوره المبكر، لكن لهجة البيانات الصادرة عن هذه المنظومات الطلابية ـ باستثناء البيان الاخير المزيل باسم (رابطة طلاب فدانق بالجامعات و المعاهد العليا ـ اجراس الحرية18ـ يناير) كانت جميعها تؤكد باستمرار على خطورة المسالة و التحركات التى عكفت من خلالها بعض الاطراف من السياسيين على الاصطياد فى تلك المياه الاسنة و تمرير اجندتهم الشخصية الضيقة فى مغامرة تفتقر للحس المسئول و الروح المخلصة التى تنظر ابعد من حدود المعطيات الراهنة و تغلب البعد الاخلاقى المتجرد من اى ميول شخصية تستفيد من حالة التوتروعدم الاستقرار بولاية اعالى النيل.
حتى وان اوردت الروايات الرسمية بان السبب الجوهرى لاندلاع النزاع بين مجموعتى (الدينكا) و (الشلك) فى مدينة ملكال ، تظل هناك اسباب و دوافع اخرى و غير مجهولة تم التعبير عنها هنا و هناك عبر بيانات الادانة التى صدرت عن الجانبين ، هذا بالاضافة الى امتداد تلك الاحداث من استاد ملكال الى قرى( نكديار) و (كنيسة لول) فى مسافة تنفى فرضية ان ( نشوب خلافات بين مجموعات الرقص فى احتفالات السلام) هو ما افضى الى مقتل و اصابة اكثر من 100 شخص و حرق حوالى180 منزل الى جانب نزوح و تشرد العديدين حسب الاخبار التى اوردتها صحف ( الاحداث ـ راى الشعب و مونتر بتاريخ 11ـ 12 يناير الجارى) ، وهو امر مؤسف ان نفقد المزيد من الارواح ونحن نحتفل باتفاقية السلام و التى كان من الاجدر بنا تمثل روحها و مغزاها الرئيسى فيما بيننا ، كما ندين هذه الجرائم مطالبين سلطات حكومة الجنوب بفتح تحقيق عاجل حول تلك الاحداث وتقديم المتورطين فيها فورا الى العدالة حتى لا تتكرر مثل هذه الظواهر فى المستقبل و ان تسكن الفتنة تمامافى مهدها.
من المظاهر الملحوظة فى خصوص الاحداث المؤسفة التى شهدتها عاصمة ولاية اعالى النيل مؤخرا هو حالة الخفوت المريب التى اعترت الرموز و القيادات من السياسيين و المثقفين الذين يمثلونها ، وهذه ازمة واضحة نخشى معها قابلية تلك الرموز للتماهى مع اجسامهم القبلية و تاسيس خطابهم وفق تلك المناورات المنحازة للمجموعة فى اولى المنعرجات الحقيقية التى تحتاج الى المواقف الشجاعة كادانة تلك الاحداث و المتورطين فيها مهما كانت خلفاياتهم او انتماءاتم الاثنية .. الا يوجد بينكم رجل عاقل؟.
الامر الآخر هو موجة الاتهامات التى لم تتوقف منذ صبيحة تفجر الاحداث حتى الان ، اذ تحولت المسالة الى ملاسنات و بيانات وصل فيها الخطاب الى درجة التعبئة و اعلان حالة (الجهاد) نعم الجهاد ! من احدى مجوعات النزاع التى يمثلها اتحاد طلابى .. ففى ظل الصمت و التوارى الذى تعكف عليه القيادات فى ولاية اعالى النيل وعدم التفاتهم الى هذه التعبئة نتساءل حول مدى مسؤوليتكم عن هذا الخطاب الذى تقوده روابطكم الطلابية فى الولاية .. اين انتم من كل هذا لماذا لم تدينوا المتورطين من الطرفين .. اليس بينكم رجل عاقل؟
الملاحظة الاساسية و الاخيرة بالنسبة لنا و التى تؤكد على حالة العجز الكبير و العزلة التى تعيشها القيادات الاجتماعية و السياسية فى اعالى النيل هى عدم قدرتهم حتى الان على تحديد المخرج من حالة النزاع القبلى التى يمكن ان تتسع دائرته اذا ما تعاملوا معه على اساس الاصطفاف و استغلال اوضاع الحذر ببث دعاياتهم السياسية ، فالمخرج معلوم و غير مكلف البتة لكنه يحتاج الى القدرة الكافية من الالتزام الادبى و الاخلاقى لتبنى خيار الترابط الاجتماعى عبر اجراء عملية( مصالحة) و اسعة بين جميع الاطراف فى اعالى النيل كمنطقة تساكن اجتماعى طويل سواء كانوا من (الدينكا) او (الشلك) لابراء النفوس ولكم فى توصيات مؤتمر اونليت المنعقد فى فبراير 1999 اسوة حسنة تسترشدون بها. فملكال ينبغى ان تكون للجميع كما ان الاكثر اهمية هو ان يكون جميع ابناء المنطقة لملكال وهذا امر فى الامكان حدوثه بيد انه يحتاج الى تضافر الجهود المخلصة و العقول المتسامية بين السياسيين و المتعلين الشباب و جماعات المجتمع المدنى ، هنالك عدة خيارات كنا نتمنى ان يشترك فى طرحها المكون المحلى بولاية اعالى النيل لسلطاتهم المسئولة عن تامين حياتهم استقرارهم وهذه الخيارات هى :
اولا: اقامة مؤتمر جامع للمصالحة و التعايش الاجتماعى يشارك فيه عقلاء المنطقة من الادارة الاهلية ، منظمات المجتمع المدنى، المبدعين الشعبيين، و الجهات الحكومية الرسمية وان يتم تكوين مجلس للسلام يضم كافة مكونات المنطقة يهتم بمتابعة و انفاذ توصيات المؤتمر.
ثانيا: ابتدار حملة واسعة لجمع السلاح من ايدى المواطنين حتى تضطلع السلطات الامنية بالولاية من فرض الامن و سيادة حكم القانون.
ثالثا: تشجيع منظمات المجتمع المدنى على اقامة مخيمات مشتركة ورش عمل و مخاطبات جماهيرية عن قضايا المصالحة و بناء السلام و التعايش الاجتماعى، الى جانب بناء مشروعات عمل مشتركة بين المجوعات المتنازعة تمكنهم من الاندماج الاجتماعى .
رابعا: ضمان تشكيل المنظومات و الاجسام المدنية و الطلابية على مبدا الشفافية وعدم استخدامها من قبل السياسيين و المنتفعين كمظلات لتمرير ( الهلوسات) و الاجندة الضيقة قصاد الدعم المادى الذى يقدمونه لها ، وعلى الشباب فى تلك المنظومات السعى لتغليب المصلحة الاجتماعية لكافة الاطراف وفى ضوء الاهداف المعلنة لتك المنظومات و الجماعات.
خامسا: تخصيص مساحات و برامج باذاعة و تلفزيون الولاية يكون الهدف منها هو ترقية الحس الاجتماعى بقضايا بناء السلام و العيش المشترك بين سكان ولاية اعالى ، وان يتم توظيف اللغات المحلية كوسيط لنقل رسالة تلك البرامج.
سادسا: التزام القيادات السياسية و الحزبية من المنطقة بعدم ترحيل خلافاتهم السياسية الى داخل منظوماتهم القبلية وذلك لتلافى منهج التسييس القبلى الذى برعت الانقاذ فى استخداماته .
عموما تلك هى تصوراتنا و مساهمتنا البسيطة فى مسالة ينبغى ان ينصرف فيها كل المهتمين الى الدفع بمبادراتهم التى يرون امكانية مساهمتها فى تهدئة الاوضاع و تهيئة الفرصة كاملة امام الحادبين على امن و حياة الناس غض النظر عن خلفياتهم الاثنية للاخذ بتلك المقترحات ، ذلك لاننا نؤمن بمبدا ان المدخل الاساسى لاستقرار علاقات الحكم و السياسة فى مجتمع ما بعد الحرب هو البحث عن اليات لتعزيز(المصالحة) و (التعافى الاجتماعى) لاجل تقوية و دعم مرحلة الانتقال السلمى و بناء واقع اجتماعى افضل تقوم فيه العلاقات داخل اطار اكبر من الروابط التقليدية ، وهى مرحلة لن تنصلح فيها الاحوال اذا ما ادمننا ( كمتعلمين) مغامرة اقحام مكوناتنا الاثنية فى جدل السلطة السياسية و عولنا على تلك الافكار، لاننا سنكون بذلك قد وضعنا اللبنة الاساسية للتشرزم و مهدنا الطريق واسعا امام الانتهازيين ليتسلقوا بنا الى السلطة ..








الأحد، 11 يناير 2009

استقلال السودان .. نظرة اكثر واقعية



ونحن نعايش الذكرى الثالثة والخمسين لاستقلال الدولة السودانية من المستعمر الاجنبى، كان لزاما علينا كسودانيين ان نعيد النظر المتأمل للمآلات التى صارت إليها بلادنا طوال عهود وفترات الحكم ( الوطنى)، التى تعاقبت علينا تحت كافة النعوت والاشكال، إذ ان سمة الدولة الوطنية والمستقلة، ان تحقق فى تاريخها الى الحد الذى يتيح لها بناء مراحل جديدة اكثر ثباتاً فى عمرها الحديث، وتبدو هذه النظرة على درجة غير قليلة من الاهمية بالنسبة للحالة السودانية، والتى ظلت تُنسب إليها جملة الاخفاقات الهائلة فى تاريخ دولتنا (المستقلة) من ربقة الاستعمار، الذى غادر ساحاتنا قبل خمسة عقود، دون ان تتبدل احوالنا الى درجة الاستقرار الكامل،والشواهد فى ذلك تبدو ظاهرة للعيان بالنسبة لكل متأمل واقعي، فمن خلال مراجعة التجربة الوطنية نفسها تتضح أمامنا جُملة من الازمات التى تورطت فيها النخبة السياسية من شمال ووسط السودان النيلي، وهى تفرض وصايتها على تفاصيل العلاقات السياسية والاقتصادية الحيوية بالبلاد، بعد ان نالت تلك الفرص الكبيرة بفضل تلاحم صلاتها مع (الاستعمار) رغم ان الشعار الذى رفعته الاحزاب الاستقلالية وقتذاك (السودان للسودانيين)، كان يعنى بصورة اساسية فلسفة حمل الاستعمار للخروج من البلاد، بيد ان ذات الشعار عاد مجددا ليطرح اسئلة اخرى تتعلق بمصداقية الاطراف التى تنادت الى الفكرة، فى اول منعطف حقيقى تمثل فى مفاوضات صيف 1952م التى حضرتها (معظم الاحزاب السياسية السودانية فى مصر)، حينما ذهب قادة تلك الاحزاب لبحث مستقبل السودان فى أروقة السياسة المصرية واحزابها، ولم يكن حزب (حستو) والجنوبيين ضمن تلك الاحزاب التى دعيت الى القاهرة للتفاكر مع النظام الجديد، الذى اعقب الثورة التى قادها الضباط الاحرار فى مصر (محمد سعيد القدال 2002م)، ولا تبدو المسألة مثيرة للاستغراب عندما ننظر مذكرات اللواء محمد نجيب، وهو يقول فى هذا الصدد (كانت الخطوة الاساسية هى جمع كلمة السودانيين بمختلف احزابهم على موقف موحد تعاونه فيه مصر.. وبدأنا المفاوضات مع وفود الاحزاب السودانية.. وكان معظم هؤلاء من معارفي واصدقائي و زملاء دراستي.. وكانت تربطني بهم علاقات وثيقة متجددة)، مقابل ذلك التحرك جاءت ردة فعل السياسيين الجنوبيين فى خطوتين مهمتين، تمثلت الاولى فى المذكرة الاحتجاجية التى بعث بها السيد بوث ديو إلى الامم المتحدة محتجاً على تلك الاتفاقية، اضافة لتحرك ثانٍ قاده بول لوقالي سكرتير (لجنة جوبا السياسية)، فى شكل مذكرة دفع بها الى السلطات الانجليزية معترضاً على عدم استشارتهم فى اتفاقية القاهرة، التى أدت لتشكيكهم بصورة كبيرة فى نوايا القيادات السياسية الشمالية. وفق تلك المعطيات كانت الحركة الوطنية السودانية ترفع شعارات أكدت مفارقتها لواقع السودان المتعدد اصلاً، لتنحصر تجربة استقلال السودان فى حدود سيطرة تلك النخب والزعامات الطائفية، التى لم تنظر للمسألة من مستوى المسؤولية الوطنية الجادة، فغيبت قضية مستقبل الدولة السودانية بنظرة آنية لم تضع فى الحسبان حتى ملامح المشروع الوطنى، الذى يمكن ان يصبح بموجبه (السودان للسودانيين)، لتبتعد اقوام ومجموعات كبيرة ومعتبرة عن علاقات الحكم طوال الفترات اللاحقة فى دولة السودان، وتتعثر كذلك جميع محاولات اصلاح هذا التجاوز بعدد من الحيل التى تبنَّت نفس النهج القديم فى الممارسة السياسية، وخلق ذلك بطبيعة الحال جملة تمايزات اجتماعية، ثقافية، واقتصادية، ادت بدورها لحالة الخلل المستديم فى العلاقة ما بين مركز الدولة (الحاكم) فى الخرطوم، وباقى المناطق التى ظلت ترزح كهامش مستبعد تماماً من واقع الحياة العامة فى السودان. لكن تظل المطالب التى رفعها السياسيون من جنوب السودان فى المؤتمر المعروف فى مسار التاريخ السياسي للسودان بـ(مؤتمر جوبا)، والذى انعقد فى الفترة من 12ـ13 يوليو سنة 1947م هى المحك والاختبار الملموس لعقلية الالتفاف على الحقائق، واضعاف تماسك الدولة الوطنية عندنا، فإضافة لكون المؤتمر مؤشرا لأولى حلقات التلاقي السياسي ما بين الشمال والجنوب، إلا انه ظل كذلك وعلى مر التطور السياسي المعاصر يعبِّر عن موقف سياسي تبنته اجيال جنوب السودان فى مقاومة السياسات الحكومية المركزية، وقد انتصرت القضية ـ عبر الزمن ـ لعدالتها واتساقها مع وضعية التفاوت التنموي بالبلاد، لكنها احتاجت لاكثر من نصف قرن حتى تتفهم النخبة السياسية فى شمال السودان واقعية تلك المطالب وعدالتها كقضية لا مناص من مخاطبتها، ومن المؤسف ان تتحقق تلك الشروط عبر حوار البندقية الذى قضى على أهم الميزات الضرورية فى البناء الوطني ألا وهو عامل الثقة والالتزام بالعهود والمواثيق، ونحن على شرف هذه المقاومة، لا يفوتنا إلا ان نحيي ذكرى آباء اماجد اسسوا لهذا المسار الوطنى الخالد، من لدن (فيلمون مجوك، كلمنت امبورو، جيمس طمبرا، بوث ديو، لادو لوليك، سريسيرو ايرو، ادوارد ادوك، لويث اجاك، كوميانجى ابوبو، حسن فرتاك، شير ريان، قير كيرور، الاب اندريا ابايا، اكومو بازيا، سلطان لابنجا، الاب قيدو اكاو، وسلطان تيتة)، فعبر تعضيد المطلب ساهموا بقدر وفير فى انبثاق الوعي السياسي لجنوب السودان، فطرحهم لخيار الفيدرالية هو الذى اتاح المساحة الوافية فيما بعد حسب الوعد الذى قطعه لهم محمد صالح الشنقيطى فى مؤتمر جوبا مقابل تصويت الجنوبيين لصالح منح السودان حكما ذاتيا، وبعد ان تحقق الاستقلال على هذا الشرط والعهد شب خلاف مبعثه رفض تضمين ذلك المطلب فى مسودة اول دستور وطني فى سبتمبر من العام 1957م، وقد صدر بيان اعلن فيه الساسة الشماليين للاسف ان (مطلب الجنوب لقيام نظام فيدرالى فى البلاد تمت مناقشته ووجد انه لا يصلح للسودان)، ولا ندري الى يوم الناس هذا اين تمت مناقشة تلك القضية، لكنه على أية حال بؤس السياسة السودانية وعقمها هو الذى اوجد تلك العقلية الوصائية لتقرر ما تراه مناسبا وما هو غير ذلك، حتى تم تفسير مطلب الفيدريشن كرجاء انفصالي، ولكن الاب سترينو لاهورو افاض فى الدفاع عن شرعية المبدأ ووجاهته أمام البرلمان، وهو يؤكد (ليست للجنوب نوايا سيئة تجاه الشمال، ان الجنوب يطالب فقط بادارة شؤونه المحلية فى ظل السودان الموحد وليست للجنوب نية فى الانفصال عن الشمال)، ولاننا فى السودان ذهبت كل تلك الرجاءات ادراج الريح واكتملت السيناريوهات المفارقة للشعارات من خلال ترتيبات السودنة لتتجلى فى واقع الامر هوية السودان الذى انفردت به تلك النخب على حسابها الخاص فى بواكيره الاولى منذ الاستقلال، متناسية ان ما اقدمت عليه من فعل متنكر لحقوق السودانيين فى الجنوب سيعود يوماً ما بمردود اخر سلبي يسلب الاستقلال معناه، ويدخل البلاد فى نفق معتم من الازمات التى تهدد حتى فرص المستقبل الواحد بالنسبة للسودانيين اجمعهم فى الشمال قبل الجنوب.