الأربعاء، 31 ديسمبر 2008

نحو عاصمة جديدة لجنوب السودان




ان القضية المطروحة أمامنا اليوم تُعد واحدة من القضايا المفصلية، والمهمة بالنسبة لمجتمع جنوب السودان، وهو يهمّ بعبور هذه المرحلة الحرجة والعصيبة من عمره، سيما وانه قد بدأ يأخذ أنفاسه من الرهق الطويل الذي خلَّفته الحرب فى تكوينه الحيوي، وكذلك على البنيات التحتية المنعدمة أصلاً، كما هو معلوم للقاصى والدانى، وتكمن أهمية هذه القضية لكون الظروف والأوضاع الحالية فى جنوب السودان تكاد تكون مختلفة تمام الاختلاف عن ما كانت عليه الحال بعد الحرب الأولى 55 ـ 1972م، والتي انتهت الى توقيع اتفاق أديس أبابا للسلام، والذي جاء كهدنة وفقرة سلام مؤقوت فى سجل التعب السوداني، ومعاناة مواطن جنوب السودان, إذ تتسم هذه المرحلة الجديدة بخصوصية ومكاسب جديدة ومستحقات جليلة ترتبت على اتفاق السلام الشامل، وهى مكاسب ينعم بها جميع مواطني الإقليم على قدم المساواة حتى الآن، مع وجود بعض الصعاب والتحديات الجديرة بالنقاش والتأمل كأية تجربة حديثة تحتاج للتقييم وإعادة النظر.
بالنسبة للكثيرين فإن العديد من القضايا المتعلقة بطبيعة الأوضاع فى جنوب السودان هى (قضية جنوبية) ينبغي ان تناقش على الصعيد الداخلي، حرصاً على وحدة مواطني الإقليم وتضييعاً للفرصة أمام حزب المؤتمر الوطني الذي يسعى الى الوقيعة بين المكونات المختلفة بجنوب السودان واستخدامها بعضها ضد الآخر, وهذه الأسباب الى حد ما تعتبر معقولة فى نظرنا، ونحن نتذكر العديد من الدروس التى رسخت عندنا فى الأذهان من سياسات حزب الحكومة فى تأجيج نيران الصراع الجنوبي ـ الجنوبي، وما أفضت إليه من نتائج كارثية, هذا ان لم ننس ما قام به جعفر نميري نفسه وهو يتنكر لاتفاق أديس أبابا, لكننا ولنبدو أكثر حرصاً من الاخرين حيال بعض القضايا والمشكلات نرى أهمية التداول، وفتح النقاش فيها بقدر من الشفافية والوضوح المطلوبين عند التعامل معها.
قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل كانت الإرهاصات تشير الى ان هناك مشروع مدينة جديدة تقوم كعاصمة رسمية لحكومة جنوب السودان بدلا عن مدينة جوبا العاصمة القديمة للإقليم, وكانت تلك الإرهاصات وقتها تتحدث عن مثلث (رامشيل) الواقع فى منطقة حدودية متاخمة بين ولايات (جونقلى وأعالي النيل والاستوائية) وقد كانت تلك الفكرة محل ترحيب واشادة الجميع لاعتبارات عدة, أولها ان هناك أهمية قصوى فى المرحلة الحالية لان تكون عاصمة جنوب السودان فى بيئة جديدة تساعد على بلورة الرابط القومي بالنسبة لمواطني جنوب السودان بعيدا عن أي تراكم لتجارب الماضي او حتى محاولة أحيائها أملاً فى تصالح جديد بين تلك المكونات فى ظل الظروف والمتغيرات التى نشهدها, استفادة من دروس التجربة المريرة القاسية التى عاشها شعب جنوب السودان فى الفترة الممهدة لإلغاء اتفاق 1972م، عندما تم تقسيم الإقليم الجنوبي الى ثلاثة أقاليم، وما سبق ذلك من أحداث (الكوكرا) المعروفة، مع العلم ان تلك الفترة بالنسبة للحكومة المركزية كانت مفهومة لما يمكن ان تقود إليه من اختبار تماسك سكان الإقليم الذى كان يمارس تجربة الحكم لأول مرة فى تاريخه، هذا الى جانب بعض المشكلات الأخرى المتمثلة آنذاك فى غياب أي أثر للتعليم، وبالتالي انعدام المؤسسات التى تقوم بأدوارها خارج نطاق حدود الانتماء القبلي، مما خلق فرصة مواتية لتهييج المشاعر القبلية كأقرب الطرق لإجهاض الاتفاقية، وزرع روح الفتنة بين الجنوبيين آنذاك.
ما قادنا لطرح قضية عاصمة جنوب السودان على هذا المستوى، الملابسات الحالية بين المجموعات السكانية الرئيسة المكونة للولاية الاستوائية الوسطي، وحكومة جنوب السودان في العديد من الجوانب فى خصوص عدد من الشكاوى المرتبطة بمسائل الأرض، والسكن، والاستقرار، التى اصبحت تواجه موظفي الحكومة الجدد, فتلك العقبات ظللنا نراها قابلة للحل، إلا أنها استمرت فى التعقيد والتراكم الى المرحلة التى أصدر فيها (الباري كميونتىB.C) او مجتمع الباري ـ وهو جسم منتخب ممثل لمجتمع الباري كبرى مجموعات الاستوائية الوسطى ـ بيانا يناشد فيه حكومة جنوب السودان بضرورة نقل عاصمة الإقليم من جوبا إلى أيٍ من الولايات الجنوبية التسع الأخرى، معددين فى ذلك الأسباب التى دفعتهم لاتخاذ تلك الخطوة، وهو بيان منشور فى صحف (الخرطوم مونتر ـ وجوبا بوست الإنجليزيتين ـ صحيفة الصحافة العربية ) بتاريخ 15ـ نوفمبر ـ 2008م، ولا أدرى حتى لحظة كتابة هذه السطور اذا ما سلمت نسخة من هذا البيان الى حكومة الجنوب أم لا؟! ومهما اختلفنا مع ما دفعوا به من أسباب تدعوهم الى المجاهرة بتلك الخطوة، فإننا نرى أنها جاءت نتيجة لتجربة وقناعة منهم بجانب أخطاء مارستها عليهم الحكومة فى الفترة الماضية من عمرها, لكن النقطة الأهم فى بيان مجتمع الباري هذا هو انه أكد بصراحة ووضوح على ان هكذا مشكلات من شأنها ان تصرف (مجتمع جنوب السودان) عن قضاياه الكبرى التى ينبغي ان تتوحد ازائها الجهود للخروج الى بر الأمان.
الأهم فى الامر ان صدور هذا البيان فى هذه الفترة تقريبا تجعل الفرصة مواتية أمامنا فى جنوب السودان بشتى الأسماء والانتماءات والمكونات لوضع هذه القضية موضع الأهمية والاعتبار, فعلى عكس المراحل السابقة كانت تلك المطالب تصدر عن جهات غير معلومة بالنسبة لنا، وقد وجدت العديد منها على شبكة الانترنت، الشيء الذي جعلها تبدو فى شكلها العام معبِّرة عن مصالح لأفراد او جهات ذات مصلحة سياسية, والأمر مختلف فى كلا الحالتين اذ ان( الباريا) هم فى المقام الأول والأخير مواطنون جنوبيون تهمهم مصلحة الإقليم والمواطن، ولا يمكننا تجاوز ما يطرحونه من وجهات نظر أمام حكومتهم كمجتمع لهم من الحقوق ما لبقية المجتمعات الأخرى, فلطالما هم يرون ضرورة ذهاب العاصمة بعيدا عن مدينة جوبا, فان الحكومة مطالبة بالجلوس إليهم ومناقشتهم فيما ذهبوا إليه من أسباب ووضع المسألة برمتها موضع التنفيذ، فكيف لنا فى هذه الأوقات ان نغفل الحوار البناء والمشاورة الحادبة على المكاسب التى حصل عليها جنوب السودان, فالخطاب موجه لـ(حكومة جنوب السودان)، وهذا طرح متقدم جدا بالنظر الى القضية من جذورها, وهنا نتوقع ان تخرج من طابع التعامل السياسي ولنعتبرها حلقة من حلقات الحوار الجنوبي كقضية تخص )الجنوبيين( كإطار مفهوم بالنسبة للكثيرين.
النقطة الأكثر ايجابية فى هذا الامر هو اننى عمدت بعد الاضطلاع على البيان المذكور الى إدارة حوارات عشوائية مع مجموعة من الشباب لمعرفة وجهات نظرهم المختلفة فى هذه القضية مثار الجدل, فوجدت ان الغالبية منهم يرون ان تخطو حكومة الجنوب خطوات عملية فى خصوص أهمية إيجاد عاصمة بديلة للإقليم غير مدينة جوبا, بدافع ان قضية الرابط القومي الجنوبي تكاد تأتى كأولوية قصوى مقدمة على مسألة العاصمة نفسها, وهو رأي نابع من جيل اصطلى بنيران الحرب والنزوح، كما عاش تجربة مفيدة قادته الى التعرف على جل المكونات الاجتماعية للجنوب ما كانت تتاح على ارض الواقع للعديد من عوامل الجغرافيا وانعدام السبل، وهم الآن ليسوا على أدنى استعداد لفقدان تلك الوشائج بالتوترات التى يمكن ان يثيرها موضوع العاصمة هذا.
قلنا فيما سبق من حديث حول الموقف الحكومى المطلوب فى هذا التوقيت فيما يتعلق بالتعامل المفترض مع القضية التى اثارتها مجموعة (الباري) عبر منظومتها الممثلة لها، هو الاستجابة لهذه القضية دونما تجاهلها على الاطلاق تحت أية دعوى من الدعاوى، ذلك لكون ان غض الطرف عن هكذا مشاكل مجتمعية من شأنه ان يقود لنوع جديد من التباعد والتوتر بين السلطات الحكومية وجزء من مواطنيها وهنا ينبغى كذلك على الحكومة ان تضع فى اعتبارها خصوصية الوضع الاجتماعى لجنوب السودان والذى لا يمكن مقارنته مع طبيعة المجتمعات المستقرة فى مسائل الارض والسكن، دعك عن الحوار المجتمعى حول نشدان الاستقرار والوحدة الداخلية، فكل تلك المسائل المار ذكرها ما زالت فى طور تشكلها الاولى الذى قد تعيقه عدد من التعقيدات والمخاوف التى تتجاوز حتما الحقائق الماثلة على الارض سيما المتعلقة منها بالتقديرات السكانية واثرها على علاقات السلطة والحكم والتداخل الاجتماعى.
تأتي اهمية القضية مثار الجدل حول عاصمة جنوب السودان القديمة (مدينة جوبا) من جملة هواجس طرحتها المجموعة المحتجة عبر بيانها الذى تحدثنا عنه فيما سبق، وهى بالنسبة لنا ولكثيرين غيرنا مسألة غاية في الاهمية، ونحن ننظر فى المدى البعيد لمستقبل العلاقات المتوقعة بين جميع مكونات الاقليم، والمشوار الطويل الذى قطعته تلك المجموعات فى سبيل الحفاظ على وحدتها وتعارفها، بل ومحاولة تجاوز جملة من ترسبات الماضى التى نسفت حتى عوامل الاستقرار البسيطة التى توافرت حينها، ولا نخشى على صعيد جنوب السودان فى ذلك أي مهدد او عامل خارجى يتوقع استغلال هذه الوضعية بغرض التآمر، عليه فليكن تحركنا هنا قائما على مبدأ أساس هو الحرص الذاتى والحفاظ على تماسكنا كنوع من الوعى المدفوع بالمصلحة الكلية والمستقبلية لجنوب السودان.
لقد اثارت مطالبة (الباري كميونتي) لحكومة جنوب السودان بنقل العاصمة من (جوبا) حفيظة الكثيرين بدلا من ان تولد لديهم الاسئلة المبكرة، كيف وان القضية اتخذت مسارا معلنا كما جاءت فى توقيت يمكن ادراكه علما بان المجموعة التى كتبت البيان تضم فى تكوينها رموزاً ومثقفين ممثلين للمجموعة بما فيهم ناشطين سياسيين منتمين لاغلب الاحزاب الموجودة فى الاقليم، وهنا يتخذ الامر طابعا جديا قابلا للتداول والتعاطى، هذا فى الجانب الخاص بالحكومة التى خاطبتها المجموعة بالتحديد، لكن الفرصة ما تزال كذلك مواتية بالنسبة لبقية التكوينات والاجسام المدنية والحية كالاحزاب وتنظيمات المجتمع المدنى بالجنوب ان تلتفت لهذه القضية وتعيرها قدرا من النقاش والاهتمام لتجنب ما قد تفضى اليه التوترات الاجتماعية من صراعات محتملة تعيق الجميع عن تحقيق أية خطوة جديدة فى اتجاه التقارب الاجتماعى.
تؤكد مسألة العاصمة هذه على وجود بوادر لأزمة قابلة للتلافى اذا ما اعرتها السلطات الرسمية فى جنوب السودان قدرا مطلوبا من الاهتمام كما اسلفنا، فالقضية تعبر وبوعى كبير عن وجود جفوة واضحة تؤكد انشغال الحكومة عن القضايا الحساسة ذات التأثير المباشر على علاقات المجتمع فيما بينه فى مرحلة اقل ما يمكن ان توصف به هو انها مرحلة للبناء والتأسيس أي بمعنى انها تتطلب على المدى القريب اولويات واضحة ومحددة منها تحقيق مبدأ المشاركة الشعبية فى اتخاذ القرار فى المسائل المرتبطة بالمجتمع كالاراضى مثلا، والتى تبدو فى تقديرنا المسألة الجوهرية فى مطالب الباري، وقد انبنى على ذلك التباعد تعطيل العديد من المشروعات الحيوية والاقتصادية فى جنوب السودان تحت بند (الارض للمجتمع) كتفسير جديد لاحد بنود اتفاقية السلام الشامل التى جاءت فى اطار التفاوض السياسي فى نيفاشا، وفى ظل انعدام صيغة الاتفاق بين مجموعات ولاية الاستوائية الوسطى وحكومة الجنوب فشلت الاخيرة ايضا فى انجاز مشروعات جديدة ازاء مخاوف الباري وتمسكهم بارضهم، فصارت العاصمة جوبا من اغلى مناطق الدنيا من جميع النواحى بما فيها السكن وليس امتلاك الارض، وهنا كان لزاما علينا سيما وان الاراضى الموجودة داخل المدينة هى مناطق تواجد مجموعة الباري التى ظلت تؤكد على ذلك دوما بمقولة (جوبا نا باري) أي بمعنى (جوبا بلد الباري)، وهنا تتجلى مفارقة المدينة واستيعاب أية علاقة يمكن ان تقوم على ملكية الارض فى هذه الظروف، اذ يختلف الامر كثيرا بالنسبة لبقية مدن الجنوب الكبيرة الاخرى، والتى نشأت وفق محددات نشأة المدن كمراكز حضرية ومناطق نفوذ اداري وحكومى وهو ما نلحظه فى مدن مثل واو وملكال اذ نجد مناطق تواجد القبائل تتركز فى القرى بينما المدينة هى الملتقى الذى يجمع موظفى الحكومة من الطبقة الوسطى والتجار وكل من له مصلحة فى التواجد هناك، غض النظر عن اصله وجذوره، وهى مسألة منعدمة فى حالة مدينة جوبا، لان تجربة تطورها ارتبطت بمجموعات محددة فى اطار المنطقة الاستوائية ولم تتح لمجموعاتها فرص الاختلاط او حتى التداخل مع باقى المجموعات من بقية الاقاليم الاخرى وبالاخص النايلوتيين، كمجموعات كبيرة ذات وزن ومؤثرة، وقد اتضح كيف امكن استغلال هذه المسافة فى اثارة احداث (الكوكرا) المشهورة بفهم سطحى وضيق.
ختاما: يظل مطلب العاصمة الجديدة هو المخرج السليم والذى يراعى رأي مجموعة من المواطنين الجنوبيين الذين يرون تقديم الوحدة الجنوبية كخيار استراتيجى وغالب يعين الاقليم فى الالتفات الى قضاياه الكبيرة التى تحتاج لجهد الجميع فى هذه الظروف التى يتوقع فيها الكثيرون اوضاعا اكثر استقرارا، فقط باعتماد نهج الحوار الموضوعى وتعزيز القواسم المشتركة لتجاوز جميع الاخفاقات الماضية، اذ ان هناك العديد من الاسباب التى جعلت الدكتور جون قرنق يرجح منطقة رامشيل كعاصمة مقترحة وهى اسباب سنستغرق فيها زمنا طويلا نصل بعده الى نفس القرار وهو ضرورة نقل العاصمة خارج مدينة جوبا، حينها فقط سندرك الفائدة الكبيرة التى سيجنيها الجنوب على الصعيد الاجتماعى وتحقيق شروط الوحدة الداخلية والتكامل والمصالحة.


وكل عام وانتم بخير،،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق